تساهل أهل الشام في مسألة الاستثناء في الإيمان
ولو تأملتم فإنكم تجدون أن أهل الشام كـمعاذ رضي الله تعالى عنه، وكذلك الأوزاعي -وهو من أهل الشام - وأمثاله، وتلميذ معاذ سيأتي ذكره وهو الحارث بن عميرة وغيرهم كانوا يرون التخفيف في المسألة، وأما أهل العراق فيشددون: إما في الاستثناء، وإما في النفي؛ لأن أهل العراق كان فيهم الإرجاء، وكان فيهم الخروج، فكان بعض السلف يراعي قول الخوارج فيقول: نحن مؤمنون، ونحن مسلمون؛ مراعاة لقول الخوارج : إن الأمة كفرت وارتدت إلا من كان معهم؛ والعياذ بالله، وبعض السلف من أهل العراق الذين في الكوفة وما حولها يراعون وينظرون إلى كلام المرجئة ، فهم يقولون: إذا قال: أنا مؤمن؛ فهو مستكمل الإيمان، أي: أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل.إذاً: لا خلاف في الحقيقة، وأما أهل الشام فقد كانوا في راحة، قال الأوزاعي فيما رواه عنه اللالكائي وغيره: [ وقد كان أهل الشام في راحة وفي غفلة عن هذه البدعة ] -أي: بدعة الإرجاء- حتى جاءهم بعض أهل العراق ممن يحمل هذه الأفكار -أي: فكرة الإرجاء- وأما الخوارج فلم يكونوا في الشام وإنما كانوا في العراق إلا أنه كان منهم هناك بضعة نفر.فيقول الأوزاعي: ( [ من قال: أنا مؤمن؛ فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فحسن؛ لقول الله عز وجل: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون ])، وهذه هي الآية التي ذكرها الشارح هنا، وسوف نذكر وجه الاستدلال بها، ونذكر تفصيل الأجوبة التي أجابوا بها عليها، وبيان خطأ تلك الأوجه؛ ككلام الزمخشري وغيره.يقول الإمام أبو عبيد رحمه الله تعالى: (وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ . وعبد الله هذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وصاحب معاذ هو الحارث بن عميرة). وإذا رجعنا إلى كتاب الإيمان لابن أبي شيبة فإنا نجد هذا الأثر في (ص:24) رقم (76)، قال الإمام أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله تعالى: (حدثنا أبو معاوية عن داود بن أبي هند عن شهر بن حوشب وهو ضعيف)؛ فلذلك يكون الأثر ضعيفاً، لكن يستأنس به؛ لأنه ليس شديد الضعف، ولا هو متهم بالكذب في مثل هذه الأمور، فيؤخذ هذا الكلام ويستأنس به إن شاء الله، فهذه المسألة الأمر فيها هين، والرأي فيها متقارب- عن الحارث بن عميرة الزبيدي قال: (وقع الطاعون بـالشام -أي: في السنة الثامنة عشرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فقام معاذ بـحمص فخطبهم فقال: [ إن هذا الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم ])، فانظر إلى مواعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أبلغها، وما أوجزها، وما أعظمها، فقد كان الناس في خوف، وفي قلق، وفي رعب؛ لأن الطاعون إذا وقع فإنه يفتك بالناس بالآلاف، بل بالملايين، فيهلعون ويذعرون كعادة الخلق إلا من ثبته الله بالإيمان، فلما رأى معاذ هذا الحال، وهذا الاضطراب في الناس قام رضي الله تعالى عنه خطيباً في أهل حمص فقال: ([ إن هذا الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، اللهم اقسم لآل معاذ نصيبهم الأوفى منه ]) حتى يطمأنوا، فدعا الله أن يقسم له ولآل بيته النصيب الأوفى منه؛ لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطاعون شهادة لمن أصابه، قال: ([ فلما نزل من على المنبر أتاه آت فقال: إن عبد الرحمن بن معاذ قد أصيب -أي: ولد معاذ - فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انطلق نحوه، فلما رأى عبد الرحمن بن معاذ أباه معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال يا أبتِ! الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ]) انظر إلى تربية الصحابة رضي الله تعالى عنهم لأبنائهم، قال: [ يا أبت! الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، فقال معاذ رضي الله تعالى عنه: ستجدني إن شاء الله من الصابرين ] ، فالابن هنا يعظ أباه ويذكره بأن الحق قد أتى، والأب يقول لابنه: يا بني! سأكون صابراً كما أمر الله.قال: ([ فمات آل معاذ إنسان إنسان -يعني: واحداً واحداً- حتى كان معاذ آخرهم ])، وهذا من فضل الله عليه: أن يكون هو آخرهم؛ حتى يحتسبهم، فيكونوا في ميزان حسناته. قال: ([ فأصيب فأتاه الحارث بن عميرة الزبيدي يعوده ])، والحارث هذا من التابعين، وهو تلميذ معاذ وتلميذ ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، قال: ([ وغشي على معاذ غشية وأفاق معاذ والحارث يبكي، فقال معاذ : ما يبكيك؟ قال: أبكي على العلم الذي يدفن معك ])، فقد كان التابعون يقدرون هذا العلم؛ لأنه أعلم الناس بالحلال والحرام رضي الله تعالى عنه، قال: ([ أبكي على العلم الذي يدفن معك، فقال: إن كنت طالب العلم لا محالة فاطلب من عبد الله بن مسعود ])، فنصحه أن يرحل إلى الكوفة ليطلب العلم من عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: ([ ومن عويمر أبي الدرداء ، ومن سلمان الفارسي ])، فأوصاه ونصحه بهؤلاء الجلة الخلص والكمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال له: ([ وإياك وزلة العالم ])، أي: مع حرصك هذا الشديد على العلم، ومع أني أدلك على هؤلاء العلماء، ([ إياك وزلة العالم ]) ولو كان أحد هؤلاء الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعيار دائماً عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمن بعدهم من السلف ليس في أن العلماء قالوا، أو أن فلاناً قال، وإنما هو بالحق من الكتاب والسنة، قال: [ فقلت: وكيف لي أصلحك الله أن أعرفها؟ ]، وهذا سؤال عظيم جداً، فهنا يوصيه ويقول له: انتبه من زلات العلماء، فالسؤال الذي يتبادر: وكيف لي أن أعرفها؟ قال: [ للحق نور يعرف به ].وفي رواية الحلية : ([ واقبل الحق وإن جاءك من منافق ]) أي: انتبه من زلة العالم، وخذ الحق واقبله وإن جاءك من منافق، فالسؤال هنا: وكيف أعرف زلة العالم من حق وصواب المنافق؟ وهنا تكون الحيرة، فقال له: ([ للحق نور يعرف به ]) أي: وإن جاءك من منافق، والخطأ أو الزلة تعرفها وإن جاءت من عالم جليل ثقة، والإنسان عليه أن يستفتي قلبه، ومن هنا كان أهم شيء لإصلاح دين الإنسان وعلمه أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى في طلب العلم، وأن يريد به وجه الله، وأن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فحينئذ يظهر له ذلك بقدر إيمانه، وإخلاصه، ودعائه، وتوفيق الله تبارك وتعالى له، فيظهر له الفارق بين الزلة، وبين قول الحق من المنافق، فيأخذ الحق وإن جاء من منافق.ولا يعني هذا أن كل أحد يحصل له ذلك، لكن على الأقل لا تأخذ بزلات كثيرة، أو تتنبه لزلات كثيرة، وفي نفس الوقت لا تترك خيراً كثيراً؛ بحجة أن أهله فيهم نفاق، أو فيهم بدعة، أو فيهم شر أو فيهم معاصٍ، فربما نطق أولئك بما هو حق دل عليه الكتاب والسنة، وعليه نور الكتاب والسنة، ونور الحق، وإن كان صدر عن أناس قلوبهم اختلط فيها النور بالظلمة. قال: ([فمات معاذ رحمة الله تعالى عليه، وخرج الحارث يريد عبد الله بن مسعود -أي: أنه يعمل بالوصية- في الكوفة ، فانتهى إلى بابه فإذا على الباب نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود يتحدثون، فجرى بينهم الحديث])، وهذا الرجل جاء من الشام وهو غافل عن المشكلة هذه، وليس عنده أي إشكال فيها، وكما قلنا: إن الإشكالات والمشاكل والفتن كانت في العراق، قال: ([فجرى بينهم الحديث حتى قالوا: يا شامي! أمؤمن أنت؟ فقال: نعم، فقالوا: من أهل الجنة؟]) فأجاب بجواب يدل على علم وفقه، فقال لهم: ([إن لي ذنوباً وما أدري ما يصنع الله فيها، ولو أعلم أنها غفرت لي لأنبأتكم أني من أهل الجنة]) أي: فالذي يحول بيني وبين الجنة هي الذنوب، وأما الإيمان فموجود، ولو علمت أن الله يغفرها لي لقلت لكم: نعم، قال: ([فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم عبد الله ، فقالوا: ألا تعجب من أخينا هذا الشامي؛ يزعم أنه مؤمن، ولا يزعم أنه من أهل الجنة؟ فقال عبد الله : لو قلتُ إحداهما لأتبعتُها الأخرى])، وهذا رواه أكثر من واحد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أي: لو قلت: أنا مؤمن؛ لقلت: أنا من أهل الجنة.